سورة البقرة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


قلت: البارىء هو: المقدر للأشياء والمظهر لها.
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكروا يا بني إسرائيل حين {قال} موسى {لقومه} لما رجع من الطور، ووجدهم قد عبدوا العجل: {يَا قَوْم إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أنفُسَكُم} وبخستموها {باتخاذكم العجل} إلاهكم، {فَتُوبُوا إلَى} خالقكم الذي صوركم في أحسن تقويم، {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} بهدم هذه البنية التي ركبتها في أحسن صورة، فبخستموها، ولم تعرفوا قدرها، فعبدتم أبلد الحيوان، الذي هو البقرة. من لم يعرف حق النعمة فحقيق أن تُسترد منه.
فذلكم القتل والمبادرة إلى التوبة {خير لكم} عِندَ خالقكم، لأنه يفضي إلى الحياة الدائمة والبهجة السرمدية، فلما صعب عليكم القتل؛ للشفقة على الأخ أو القريب، ألقينا عليكم ضبابة حتى أظلم المكان، فاقتتلتم من الغداة إلى العشي، فدعا موسى وهارون- عليهما السلام- بالكشف عنهم، فرفعت السحابة، وقد قُتل سبعون ألفاً، ففعلتم ذلك القتل، فتاب الحق تعالى عليكم، فقبل توبة مَن بقي منكم، وعفا عمت مات؛ {إنه هو التواب الرحيم} أي: كثير التوفيق للتوبة، أو كثير قبولها، الرحيم بعباده المؤمنين.
الإشارة: ما قاله سيدنا موسى عليه السلام لقومه، يقال مثله لمن عبد هواه، وعكف على متابعة دنياه: يا من بخس نفسه بإرخاء العنان في متابعة هواها، حتى حرمها من مشاهدة جمال مولاها، تُب إلى ربك، وانتبه من غفلتك، واقتل نفسك بمخالفة هواها، فلعلها تحيا بمشاهدة مولاها، فما دامت النفس موجودة، وحظوظها لديها مشهودة، وآمالها ممدودة، كيف تطمع أن تدخل حضرة الله، وتتمتع بشهود جماله وسناه؟!
إن تُرِدْ وصْلَنا فَمَوتُكَ شَرْطٌ *** لا يَنالُ الوِصَالَ مَنْ فيهِ فَضْلَهْ
وقال الحلاجُ في هذا المعنى:
لَمْ أُسْلِم النفسَ للأسقامِ تُتْلِفُها *** إلاَّ لِعِلْمِي بأَنَّ الوصْلَ يُحْيِيهَا
وقال أيضاً:
أُقتُلوني يا ثقاتي *** إِنَّ في قَتْلِي حَياتِي
وحَيَاتي في مَماتِي *** وممَاتي في حَياتي
أنا عندي مَحْوُ ذَاتي *** من أجَلِّ المكْرُمَاتِ
وبَقَائِي في صِفاتي *** مِنْ قبيحِ السيِّئَاتِ
وقال أيضاً:
إنْ كان سَفْكُ دَمي أقْصَى مُرادِكُمُ *** فَمَا غَلَتْ نظرةٌ مِنكُم بِسَفْك دَمِي
وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: (لا يدخل على الله إلا من بابين، أحدهما: الموت الحسي، وهو الموت الطبيعي، والآخر: الموت الذي تعنيه هذه الطائفة). اهـ. وهو موت النفوس، فمن لم تمت نفسه لم تَحْيَى روحه.
وقال بعض العارفين: (لا يحصل الدخول على الله حتى يموت أربع موتات: موت أحمر، وموت أسود، وموت أبيض، وموت أخضر. أما الموت الأحمر فهو مخالفة الهوى، وأما الموت الأسود فهو تحمل الأذى، وأما الموت الأبيض فهو الجوع- أي: المتوسط- وأما الموت الأخضر فهو لبس المرقعات، وطرح الرقاع بعضها على بعض).
قلت: ورأس الهوى وعنصره هو حب الجاه وطلب الرئاسة. فمن نزل إلى أرض الخمول، وخرق عوائد نفسه فيه، انخرقت له الحجب، ولاحت له الأنوار، وأشرقت عليه الأسرار في مدة قريبة، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.


قلت: {جهرة} مصدر نرى؛ لأنه نوع منه، أي: نرى الله رؤية عيان، أو حال من الفاعل، أي: نراه معاينين له، أو من المفعول؛ أي: نراه معاينة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكروا أيضاً، يا بني إسرائيل، حين قلتم لموسى عليه السلام لما رجع من الطور، ووجدكم قد عبدتم العجل، فأخذ منكم سبعين رجلاً ممن لم يعبد العجل، وذهب يعتذر، فلما سمعتم كلامي أنكرتموه وحرفتموه، وقلتم: {لَن نُؤْمِنَ لَكَ} أن هذا كلام الله {حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةِ} بسبب طلبكم ما لا طاقة لكم به، فغبتم عن إحساسكم، وذهبت أرواحكم، {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} ما فعل بكم، فاستشفع فيكم موسى عليه السلام وقال: يا {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّاىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّا} [الأعرَاف: 155] كيف أرجع إلى قومي بغير هؤلاء؟ {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْد مَوْتِكُمْ} وعشتم زماناً بعد ذلك {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعمة، وتقومون بحسن الخدمة، فتقروا بربوبيتي، وتصدقوا برسلي، فلم تفعلوا.
الإشارة: من شأن الأرواح الطيبة التشوق إلى الحضرة، والتشوف إلى العيان والنظرة، فلا يحصل لها كمال التصديق والإيقان إلا بعد الشهود والعيان، فلما علم الحق سبحانه من بعض الأرواح صدق الطلب، رفع عنها الحجاب، وفتح لها الباب، فأخذتها صاعقة الدهشة والحيرة، ولم تطق صدمة المشاهدة والنظرة، فغابت عن الأشكال والرسوم في مشاهدة أنوار الحي القيوم، ثم مَنَّ عليها بالبعث من موت الفناء إلى حياة البقاء، فأمنت من الشقاء، فحصلت لها الحياة الدائمة والسعادة السرمدية. فالصاعقة عند أهل الفن هي عبارة عن الغيبة عن النفس، وفناء دائرة الحس، وهي شهود عدمك لوجود الحق، والبعث منها هو مقام البقاء، وهو شهود الأثر بالله. وهو مقام حق اليقين. وحاصلة: شهود وجود الحق وحده، لا عدمك ولا وجودك، «كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان». وبالله التوفيق.


قلت: {الغّمّامّ}: السحاب الرقيق، و{المَنِّ} هنا: العسل، و{السَّلْوى} قيل: اللحم، والأصح: أنه اسم طائر كالسماني.
يقول الحقَ جلّ جلاله: في تذكير بني إسرائيل ما أنعم به عليهم في حال التيه: {و} قد {ظَلَّلْنا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ} يقيكم من الحر في أيام التيه، {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ} وهو عسل كان ينزل على الشجر من الفجر إلى الطلوع، فيغرفون منه ما شاءوا، {و} أنزلنا عليكم {السلوى}، وهو طير كانت تحشره الجنوب، فينزل عليهم، فياخذون منه ما شاءوا، ولا يمتنع منهم، فيذبحون ويأكلون لحماً طريّاً، فقلنا لهم: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا} بمخالفتهم أمْرَ نبيهم وسوء أدبهم معه، حيث قالوا: {فَاذْهَبْ أَنَتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلآ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المَائدة: 24]، فعاقبهم بالتيه أربعين سنة، يتيهون في مقدار خمسة فراسخ أو ستة. {وَلَكِن} ظلموا أنفسهم؛ حيث أوقعوها في البلاء والمحنة.
رُوِيَ أنهم لما أُمروا بجهاد الجبارين، جبنوا وقالوا تلك المقالة، فدعا عليهم سيدنا موسى عليه السلم فوقعوا في التيه بين مصر والشام، فكانوا يمشون النهار فيبيتون حيث أصبحوا، ويمشون الليل فيصبحون حيث أمسوا، فقالوا لموسى عليه السلام: من لنا بالطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ والسلوى، قالوا: كيف بحر الشمس؟ فظلل عليهم الغمام، قالوا: بم نستصبح بالليل؟ فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم، قالوا: من لنا بالماء؟ فأمر موسى عليه السلام بضرب الحجر، فقالوا: من لنا باللباس؟ فأعطوا ألا يَبْلى لهم ثوب، ولا يَخْلَق، ولا يَدْرن، وأن ينمو بنمو صاحبه، وقيل: كساهم مثل الظفر، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} [البَقَرَة: 284].
الإشارة: لما انفصلت الأرواح من عالم الجبروت، كانت على الطهارة الأصلية، والنزاهة الأزلية، عالمة بأسرار الربوبية وعظمة الألوهية، لكن لم يكن لها إلا جنة الحرية، دون جنة العبودية، فلما أراد الحق تعالى أن يمتعها بجنتين عن يمين وشمال، أمرها بالنزول إلى أرض العبودية، في ظلل من غمام البشرية، فمنَّ عليها بحلاوة المشاهدات وسلوان المناجات، وقال لها: {كلوا منطيبات ما رزقناكم} من طرائف العلوم، وفواكه الفهوم، هذا لمن اعتنى بروحه فاستكمل فضيلتها، وخالف هواها، فنفذت من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، فلم تنحجب بسحب الآثار إلى نفوذ شهود الأنوار، بل غابت عن شهود الآثار بشهود الأنوار. أما من حجبت عن شهود الأنوار بالوقوف مع الآثار، ووقعت في شبكة الحظوظ والشهوات، وربطت بعقال الأسباب والعادات، فقد ظلمت نفسها، وبخست حقها من مشاهدة مولاها، حتى استعت عليها دائرة الحس، ولم تنفذ إلى المشاهدة والأنس. وأنشدوا:
كَمِّلْ حقيقتك التي لم تكمُلِ *** والجسمَ ضَعْهُ في الحضِيض الأسفلِ
أَتُكَمِّلُ الفَانِي وَتَتْرُك باقياً *** هَمَلاً وأَنت بأمرِه لم تحفلِ
فالجسمُ للنفس النفيسةِ آلةٌ *** ما لَمْ تُحَصِّلْه بها لم يحْصُلِ
يَفْنَى وتَبقى دائماً في غِبْطةٍ *** أو شِقْوةٍ وندامة لا تنْجَلِي
أُعْطِيتَ جِسْمَكَ خادماً فخدمْتَه *** أَتُمَلِّكُ المفضولَ رِقَّ الأفضلِ
شَرَكٌ كثيفٌ أنتَ في أحْبَالِهِ *** مَا دام يُمكنك الخَلاصَ فَعَجِّلِ
مَنْ يستطيعُ بلوغَ أَعْلَى مَنزلٍ *** ما بالَهُ يرضَى بأدنَى مَنْزِل

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13